السلام عليكم
يوميات باحث عن عروسة - الجزء الثاني
"متأكدة يا حاجة إن هوه ده الشارع ؟"
نطقت هذه الجملة بأنف سددتها بطراطيف صوابعي وبيدي الأخرى أشمر عن ساقي
لأستطيع عبور بركة سباحة مجاري أبو ريحة في هذا الشارع الضيق ...
"أيوه يابني ... هوه ... شارع العالمة"
ردت والدتي بكل تلقائية, والأفكار تتدافع في نافوخي ... العالمة ؟ ... يا زين ما اخترت يا حسنين , اسم يتاقل بالذهب ...
كانت هذه هي المرة الأولى التي أرى فيها هذه الملحمة ... أقصد المنطقة الشعبية من السيدة زينب, رغم أن دراستي الثانوية كانت في
عبرت بسرعة ثم مددت يدي لأمي مساعدا إياها ... حتى عبرت بصعوبة وأنا أنكشها :
"مش يا حاجة لو مكنتيش بطلتي جمباز كنتي نطيتي بسرعة"
نظرت إلي في مكر :
" وانت لو كنت بتستخدم المقص كويس كنت قصرت بيه لسانك الطويل"
ابتسمت وأنا أمشي بجوارها داخلين في شارع فرعي آخر ... انعطفنا يمينا ...
ثم يمينا أخر, تلاها يسار بعد ثلاث حارات, لنقف أمام بلوك متوسط الهيئة,
متوسط الارتفاع, متوسط الملعب ... احم ... أقصد الحارة ...
عن نفسي ... لا أطيق المشاوير ... واللف والدوران ... لكن أمي عايزة
تجوزني وتخلص مني عشان تنتبه لجوز الأخين التانيين اللي متلقحين في البيت
... وأنا لا يضايقني ذلك بتاتا, لأني لو كنت مكانها لم أكن لأتحمل ثلاثتنا
أكثر من شهر, ولألقيت بنا في بحيرة عين الصيرة وفي أقدامنا كتل خرسانية ...
لكنها – لحظنا الحسن – أم , ولحظها الكحلي نحن أولادها ...
أفقت على جذبة يدها لي للدخول إلى ذاك البلوك, ازدرت ريقا وهميا, واستجمعت
أعصابي سائرا معها, حتى لا يقال يوما ما في بيتنا أني (شاب خرع) ...
صعدنا السلالم التي كانت تشكو حالها لكل عابر, الدرجات مكسرة بهمجية
وكأنها مجموعة من الكمائن أعدها ضباط الجستابو في الحرب العالمية لصيد
الجواسيس ... الحوائط شبه منهارة يطل من أغلب أرجائها طوب احمر يصرخ من كم
الكتابات التي تزينه مثل (حمادة الأعور كينج المنطقة), (قابل الموت ولا
تقابل حسن كرع) , (البشكويشي برنس البرانيس) ... طبعا أخذت مني الكلمة
الأخيرة وقتا طويلا لأدرك أنه بسلامته كان يقصد جمع كلمة برنس ...
ما زلنا نصعد , وطوال طريقك يفاجئك هبوط مفاجئ لقطة أو كلب أو فأر أو عرسة
قد استوطنوا هذا المكان مع أهله, لكنهم أحسوا بوجودك كغريب, فآثروا لم
نفسيهم قبل ما يفضحوا صحاب المكان ...
وصلنا إلى الدور الرابع, وطالعنا ذاك الباب الخشبي العتيق, الذي يحمل لوحة
كتب عليها "المعلم عوكشة" ... طرقت أمي الباب ووقفنا ننتظر, سمعنا صوت
أقدام تجري, ثم صوت عال بعدها طااااااااخ ... هدوء ... ثم ضحكات مايصة ...
عقدت حاجبي في استغراب, لم يعد ينقص إلا بعض الرصاص ومطاردة للسيارات لأجزم
أننا في أحد أفلام الأكشن الأمريكي ... ثواني ... وفتح الباب ... الباب
الأول ... انتظرت أن يقتحوا الباب الثاني , لولا أني فوجئت بأمي تتحدث إلى
هذا الباب, فمسحت نظاراتي وهززت رأسي , لتتضح لي الرؤية, دي الحاجة أم
العروسة ...
أفسح الباب... أقصد الأم ... لنا الطريق, لندخل على الصالون ولأتخذ مكاني
على أقرب مقعد كراجل محترم ينتظر الحكم بالإعدام ... ماله الدش يا عم الحاج
... مكنا مبسوطين ... استأذنت الأم حتى قبل أن تجلس, وخرجت بطلوع الروح من
باب الصالون الموارب, أخذت أتطلع إلى النافذة, تُرى, هل القفز من الدور
الرابع يُعد انتحارا ... نويت فعل ذلك ... لولا أن دخلت الأم بسرعة لا
تتناسب مع إمكانياتها , فاعتدلت في جلستي والتوتر يكاد يعصرني حتى آخر
قطرة, لدرجة خيل لي أني أستطيع فتح محل قصب وأعيش متنغنغ طوال حياتي بهذا
الكم من العرق الذي يكاد يغمرني ...
ألقت الأم بتحيات المجاملات والدعايات والأفلمانات وأمي ترد عليها بما لذ
وطاب من قاموس "غاية المرتاح لمجاملات الأفراح" ... دقائق ودخلت العروسة,
برضه بصينية شربات !!! ... هي العالم كلها دي مستعجلة على إيه بالضبط ؟...
كله هيتنيل على عينه يتخبط في دماغه ويتجوز و ... حانت مني التفاتة ناحية
العروسة ........ بس برضه, الجواز مش وحش أوي يعني ...
اعتدلت في جلستي وقد أحسست ببعض الانتشاء الروحاني النفسي في سريات خلاياي
العصبية المنبعجة في هيلمانات مخي ... و .... بدأنا الحديث ...
أخذت الماماتان تتحدثان عن كل شئ , السوق والمسلسلات والفساتين والأخبار
والأهرام وأبو الهول وعمه وخاله وحتى هول نفسه, تحدثتا في كل شئ ... كل شئ
... إلا موضوع الجواز !!!! ولما حانت من أمي العزيزة التفاتة ناحيتي ...
"يوه يا أم هبة (العروسة) الكلام خدنا ونسينا الموضوع اللي جايين عشانه" ..
ابتسمت لأم هبة ابتسامة غيظ مطبق من نوع "خلونا نخلص يا حاجة" ....
أخذت الحاجة أم هبة تتحدث معي وتسألني عن أحوالي وشغلي و .... مرتبي !!!
... وأنا أجاوبها بهدوء يحسدني عليه غاندي نفسه ... أخذت أختلس النظر إلى
العروسة أثناء حديثي , كانت تتابعنا طوال فترة الحديث دون أن يبدو عليها أي
اهتمام , فتارة تلعب في طراطيف الكرسي الذي تجلس عليه, ومرة تتأمل أصابع
قدمها, وأحيانا تسرح في لا شئ, من الآخر كأن الموضوع مش بتاعها... ولما طال
الحديث وطال, التفت إلى هبة مقاطعا أمها :
"هوه احنا مش هنسمع صوت العروسة ولا إيه ؟"
سكتت أمها فجأة رامقة إياي بنظرة "ده انت واد قليل الحيا صحيح" لكنها آثرت
أن تجعلها في سرها حتى يمضي الموضوع على خير , وبعدها "هتطلع عين اللي
(تيييييت)" ... وجهت الحديث إلى هبة قائلا:
"انتي بقى في سنة كام ؟"
نظرت لي بلا اهتمام ثم ردت :
"تانية كلية حقوق"
تلاشت تلك الابتسامة التي كانت تزين وجهي, وأنا أحاول التأكد من مصدر هذا الصوت .
"نعم؟"
" إيه؟ ... بقولك تانية حقوق ... في حاجة؟"
لن أستطيع الإنكار, هذا الصوت الغريب قادم من تلك الأستاذة القابعة امامي,
ارتشفت كوب الشربات على بق واحد محاولا تخفيف الصدمة, ذلك الصوت الذي يصبح
صوت أخي الأصغر بما عرف عنه من صوته الأجش مقارنة بصوتها كسيمفونية يعزفها
كناريا تدرب في منزل بيتهوفن منذ الصغر, عمق صوتها يذكرني بسرينة الإسعاف
التي مضى عليها عقدان من الزمن دون إصلاح, أسلوب كلامها يذكرني بيوسف وهبي و
"يالهوله" في أحد طلعاته المسرحية ... النتيجة, شلل في الأذن الوسطى بعد
شهرين من الزواج ...
"مش مشكلة ... هيه جت على الصوت ... نبقى نلبس هيد فون"
تمتمت بالكلمات في سري محاولا إقناع نفسي أن الصوت ليس كل شئ, وأن الحلاوة
حلاوة الروح على رأي ستي, تجاهلت كل ذلك وأخذت أسألها عن أحوالها وعن
تفكيرها وأحلامها ... وفي بعض الأحيا أرمي إفيه على السريع ليفاجئني صوت
ضحكة عذب يشبه صوت انهيار ثلجي فوق جبال الألب ...
"مش عايز تشرب حاجة يا ... يا ... حبيبي"
فوجئت بالست والدتها تقطع علينا حديثنا بهذه اللهجة التي تذكرك بلجان
استجواب الجستابو في الحرب العالمية ... قررت أن أكلف الست دي بحاجة حتى لا
تضايقنا ثانية, طلبت كوب قهوة, فنادت على إحدى بناتها لتعده وهي تنفخ في
قرف بطريقة تكفي لدفع مركب شراعية للدوران حول العالم مرتين كاملتين ...
تابعنا الحديث محاولا قدر الإمكان ألا أدفعها للتكلم كثيرا خوفا على أذني
وأذن الحاجة, خصوا إن والدي موصيني أرجعها زي ما خدتها ...
شوية ودخل لي كوب القهوة, أخذته في امتنان وبدأت في شربه متابعا حديثي ...
ارتشفت الرشفة الأولى, لحظة, هناك شئ شبه جامد في فمي , كم أكره وجود حبات
البن الصحيحة, من الممكن أن أفركش الموضوع كله لو أنها لا تعرف كيف تعد
قهوة مضبوطة ... لما يئست من محاولة طحن تلك الحبة الخرقاء, قررت إخراجها
ومواجهتهم بسوء إعدادهم لها, لكن بمجرد إخراجها, أدركت كم كنت مخطئا في
حقهم ... فما أخرجته لم يكن حبة قهوة ... وإنما, صرصورا !!!!! ... هه
اسبهللت باندهاش متفاجئ, وأخذت أتطلع له في بلاهة ... صرصار؟؟!! .. في
القهوة ؟؟!!! ... رفعت عيني إلى الجالسين ... أمي تدل تعابير وجهها على
أعلى حالات القرف , الأم فتحت عينيها كأحد عيون عين الصيرة من الدهشة,
الفتاة ... لم يبد عليها أدنى انفعال, ربما كانت تربيهم ...
سألت في عفوية مباشرة :"إيه ده ؟" ... أُحرجت الأم إحراجاً محرجاً
بالأحاريج المحرجة , وأخذت تحاول أن تشرح لي أن سيادة الصرصار قادم مع البن
وليس من عندهم و ... لم أعد أسمع المزيد ... وأنا أتذكر كيف كنت أحاول
فرتكة تلك الجثة منذ ثوانٍ معدودة تحت أنيابي, أحسست بتقلبات معدتي, قاطعت
الأم التي كانت لا تزال تحكي في موال نظرية مؤامرة الصراصير, واستأذنتها أن
أدخل إلى الحمام لدقائق ... قامت, ووسعت السكة, وتوجهت إلى الحمام, أغلقت
الباب, لأبدأ مرحلة إفراغ كل ما في جوفي ... تقيأت, وكلما تذكرت, تقيأت
أكثر ,,, حتى خيل لي أني تقيأت معدتي في النهاية ...
طرقت الباب, ثم خرجت, وفي نيتي أن أنهي الموضوع في الحال ... الأمر تعدى
مجرد الفشل في إعداد كوب قهوة ... دخلت إلى الغرفة وجلسوا هم يتحدثون
محاولين تخفيف حدة الموقف, وأنا اكتفي بتوزيع الضحكات الخفيفية زي "عمو
ابتساماتو" وأمي لا تزال تحاول أن تهدئ الموضوع وتسير به إلى النهاية ...
لم أطق الكثير, ملت على أمي, وهمست لها بإنهاء الحديث, فأنهته في براعة
يحسدها عليها ديكارت, واستعددنا للذهاب ... وفجأة, سمعت طرقاً على الباب,
تلبش وجه أم هبة, وأصابت هبة حالة هيسترية وهي تهتف "أخويا ... يافضيحتي,
يا نهاري"
لم أفهم, فهتفت في أم هبة واللي جابوا هبة:
"خير يا حاجة ... في إيه؟"
"أصل ... أصل ده فطوطة أخوها"
"إيه يعني؟ هوه أخوها من وراكو يعني ولا إيه؟"
صوت الطرقات يتعالى على الباب
"عشان خاطري يابني ... تعالوا بس استخبوا في البلكونة"
ردت أمي في عصبية أينشتين :
" إييييييييه ؟؟؟ ... ليه ؟؟ ... هوه احنا بنسرق ؟؟؟"
"معلش يا طنط عشان خاطري ... قبل ما كلنا نروح في داهية"
أخذوا يدفعوننا حتى أوصلونا إلى بلكونة تشبه مصيدة فأر صغير, وأغلقوا الباب بإحكام, و ... خيم الصمت ...
كان المكان ضيقا جدا, وكنت قد وصلت إلى أقصى حالات الخنقة ولم يعد الصبر يطيق بي صبرا, زفرت في غم وقرف ...
"أمي"
ناديت على أمي فنظرت إلي في حنان:
"خير يا تامر"
"يعني ... في حالة طلع فرطوطة أخوها ...."
"قصدك فطوطة"
"أيا كان ... المهم إنه لو لقانا هيشرحنا"
"يا حفيظ يا رب"
"أكيد يا أمي ... ده أبو جزار هيطلع هوه جواهرجي مثلا ؟"
"ربنا يستر"
"يعني ... في حالة لو كنا هنتشرح , فعايز أعترفلك بحاجة قبل ما نتكل"
"خير ياخويا؟"
"فاكرة لما كنتي بتحطي الرز بلبن في التلاجة ... وبعدين متلاقيهوش"
نظرت لي نظرة شك عتيد وهي تردد:
" آه ... خير, انت تعرف عنه حاجة؟"
"أيوه يا حاجة ... أنا اللي كنت باخده ... وبأكله لمشمش"
"مشمش؟ ... القط اللي كان عند أم حسن جارتنا ؟"
"أيوه يا حاجة ... هوه مات من شوية"
"ده انت واد جاحد صحيح ... تدي نعمة ربنا للقطط وتحرم إخواتك؟"
"نعمة إيه يا أمي؟ ... ده موت 3 قطط لحد دلوقتي؟ ... وبعدين اخواتي هما اللي قالولي بعد حالة الإسهال الجماعي اللي كانت بتجيلهم"
"روح يابني ... أنا مش مسامحاك ليوم الدين"
"يا حاجة ... المهم مشمش اللي يسامحك"
همت بأن ترد رد يحرق دم هذا الإنسان البارد اللي بيكلمها (اللي هوه
سعادتي) لولا أن فتح الباب وأطلت منه أم هبة بسحنتها الرائعة وعليها
ابتسامة قسمت وجهها نصفين مرددة :
"اطمنوا ... ده طلع أبو هبة"
همهمت في سري "ده إيه العيلة اللي تخاف من العيل وتنفض لأبوه"
خرجنا إلى الصالون ثانية, وجدت الأب ينظر لي باستغراب مغرب بالأغاريب المغربة, تكلمت بسرعة :
"عارف يا حاج ... عارف ... أنا لو مكانك كنت هقول إيه اللي الناس دي كانت بتعمله في البلكونة عندي ؟"
نظرات الرجل يبدو عليها البلاهة ... صمت للحظات, ثم رد:
"لا يا أستاذ ... أنا بس مستغرب ليه كل ما حد يجيلنا يصر يدخل من البلكونة ... أومال الباب ده جايبه لمين, لأبويا؟"
"منطق برضه يا حاج ... بس المشكلة إن الدنيا طراوة منناحية البلكونة"
"آآآآآآآه"
ثم التفت أبو هبة لأم هبة سائلا :
"مين دول يا ولية؟"
"ده الأستاذ تامر ... جي يخطب هبة"
نظر له باسحذاق متورم وهو يقول :
"إيه ده؟ ... مش بنتك مخطوبة؟"
"لا يابو هبة ... ما هو خلاص ... الموضوع ده اتفركش"
كان هذا أكثر مما تتحمل أعصابي المرهفة, أمسكت بيد أمي, واستأذنت أبو هبة
وأم هبة وهبة وأنا وانت ورقصني يا جدع ... وخدت السلم طيران دون أن ألتفت
ورائي ...
-------------------------------------------------
مداعبا كوب نعناعي أمام جهازي الحبيب, أتصفح النت وأعيش قليلا محاولا
نسيان صدمة الأمس ... دخلت الحاجة وجلست على الكنبة, نظرت إليها ... ضحكت,
فضحكت بدوري ... ضحكنا بشدة ...
"والله يا تامر أنا عمريما شفت زي كده"
"مش عارف يا حاجة إيه كم المواقف العجيب ده ... أنا بجد استويت"
"انت ياد اللي وشك فقري"
"فعلا يا حاجة ... البلكونة الضيقة خير دليل"
ضحكت أمي ضحكتها العسل ... ثم تابعت :
"اوعى تكون يا واد قفلت من الجواز"
"لا أبدا يا حاجة ... هوه اللي بشوفه ده يقفل, ده يجيب درفها"
" لأ , بجد ياخويا ... عشان أشوفلك حاجة تاني"
ابتسمت, ثم رددت :
" ماشي يا أمي, بس اصبري عليا شوية أفوق ... و ..."
"و ... إيه ياخويا؟"
"ابقى ودينا لناسعندهم بلكونة واسعة شوية ..."
ضحكت أمي بشدة ... والتفتت , مناولة إياي ... طبق الرز بلبن !!!